الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} قوله تعالى{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} الآية تقدم معناها والكلام عليها في }البقرة} فلا معنى لإعادتها. {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} قال علماؤنا: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى. قوله تعالى{عليكم أنفسكم} معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي؛ تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا؛ ولا يجوز عليه زيدا، بل إنما يجرى هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ عليك زيدا أي خذ زيدا، وعندك عمرا أي حضرك، ودونك زيدا أي قرب منك؛ وأنشد: يا أيها المائح دلوي دونكا وأما قوله: عليه رجلا ليسني، فشاذ. قلت: قد جاء حديث غريب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس؛ فإذا خيف هذا فـ }عليكم أنفسكم} محكم واجب أن يوقف عنده ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم؛ وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه. {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} قال مكي رحمه الله: هذه الآية وما بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما؛ قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه رحمه الله. قلت: ما ذكره مكي رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء. قوله تعالى{شهادة بينكم} ورد }شهد} في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة: منها قوله تعالى قوله تعالى{بينكم} قيل: معناه ما بينكم فحذف }ما} وأضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسم على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال أراد شهدنا فيه. وقال تعالى أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{إذا حضر} معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت. وهذا كقوله تعالى قوله تعالى{حين الوصية اثنان} }حين} ظرف زمان والعامل فيه }حضر} وقوله{اثنان} يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك{ذوا عدل} بين أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن قوله تعالى{ذوا عدل منكم} }ذوا عدل} صفة لقوله{اثنان} و}منكم} صفة بعد صفة. وقوله{أو آخران من غيركم} أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين. وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: الأول: أن الكاف والميم في قوله{منكم} ضمير للمسلمين }وآخران من غيركم} للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرر من الأحاديث. وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهله الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما؛ فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما. هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني؛ وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم. وقال به من الفقهاء سفيان الثوري؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به. واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون }منكم} من المؤمنين ومعنى }من غيركم} يعني الكفار. قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما. القول الثاني: أن قوله سبحانه{أو آخران من غيركم} منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك؛ والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم. ويقوي هذا أن سورة }المائدة} من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها. وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ. القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها؛ قال الزهري والحسن وعكرمة، ويكون معنى قوله{منكم} أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان. ومعنى قوله{أو آخران من غيركم} أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى }آخر} في العربية من جنس الأول؛ تقول: مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله }آخر} يدل على أنه من جنس الأول؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله{أو آخران من غيركم} أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قوله من قال }من غيركم} من غير عشيرتكم من المسلمين. وهذا معنى حسن من جهة اللسان؛ وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله؛ لأن المعنى عندهم }من غيركم} من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية }يا أيها الذين آمنوا} فخوطب الجماعة من المؤمنين. استدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم؛ قال: ومعنى }أو آخران من غيركم} أي من غير أهل دينكم؛ فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض؛ فيقال له: أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية؛ لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها فلا يصح احتجاجك بها. فإن قيل: هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق؛ ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه؛ وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهله الذمة أولى؛ ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين؛ فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين؛ فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى. والله أعلم. قوله تعالى{إن أنتم ضربتم في الأرض} أي سافرتم؛ وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض }فأصابتكم مصيبة الموت} فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم؛ ودفعتم إليهما ما معكم من المال؛ ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما؛ وادعوا عليهما خيانة؛ فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة؛ أي تستوثقوا منهما؛ وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة؛ قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى؛ فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه؛ وترك العمل له؛ وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر. قوله تعالى{تحبسونهما} قال أبو علي{تحبسونهما} صفة لـ }آخران} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله{إن أنتم}. وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته. فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. قوله تعالى{من بعد الصلاة} يريد صلاة العصر؛ قاله الأكثر من العلماء؛ لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة. وقال الحسن: صلاة الظهر. وقيل: أي صلاة كانت. وقيل: من بعد صلاتهما على أنهما كافران؛ قاله السدي. وقيل: إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت؛ هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان، والتغليظ يكون بأربعة أشياء: أحدها: الزمان كما ذكرنا. الثاني: المكان كالمسجد والمنبر، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها؛ وإلى هذا القول ذهب البخاري رحمه الله حيث ترجم (1) قلت: قد استنبط بعض العلماء من قوله الرابع: التغليظ باللفظ؛ فذهبت طائفة إلى الحلف بالله لا يزيد عليه؛ لقوله تعالى{فيقسمان بالله} وقوله قلت: وفي كتاب (المهذب) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف؛ قال الشافعي: وهو حسن. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف. قلت: قد تقدم في الأيمان: وكان قتادة يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك؛ حكاه عنهما ابن المنذر. اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق؛ فقال مالك: لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم. وقال الشافعي: لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة، وكذلك عند منبر كل مسجد. قوله تعالى{فيقسمان بالله} الفاء في }فيقسمان} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن }تحسبونها} معناه احبسوهما، أي لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال: إذا حبستموهما أقسما؛ قال ذو الرمة: تقديره عندهم: إذا حسر بدا. واختلف من المراد بقوله{فيقسمان}؟ فقيل: الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل: الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما. قال ابن العربي مبطلا لهذا القول: والذي سمعت وهو بدعة عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق؛ وحينئذ يقضى له بالحق؛ وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه؛ هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟! هذا ما لا يلتفت إليه. قلت: وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين. وقد قيل: إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال. قوله تعالى{إن ارتبتم} شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين. قال ابن عطية: أما أنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهله الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته؛ فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الشرط في قوله{إن ارتبتم} يتعلق بقوله{تحبسونهما} لا بقوله }فيقسمان} لأن هذا الحبس سبب القسم. قوله تعالى{لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى} أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا. وإضمار القول كثير، كقوله اللام في قوله{لا نشتري} جواب لقوله{فيقسمان} لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو }لا} و}ما} في النفي، }وإن} واللام في الإيجاب. والهاء في }به} عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض. ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول؛ قوله تعالى{ثمنا} قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو يكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد، أو على عرضين، أو على نقدين؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أسوة الغرماء. وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت. وقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفلس والموت. تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها. وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره. قوله تعالى{ولا نكتم شهادة الله} أي ما أعلمنا الله من الشهادة. وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في (التحصيل) وغيره. قوله تعالى{فإن عثر على أنهما استحقا إثما} قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام. وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله{من الذين استحق عليهم الأوليان}. عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى والعثير الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء. والضمير في }أنهما} يعود على الوصيين اللذين في قوله عز وجل{اثنان} عن سعيد بن جبير. وقيل: على الشاهدين؛ عن ابن عباس. و}استحقا} أي استوجبا }إثما} يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة. وقال أبو علي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ؛ لأن آخذه بأخذه آثم، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة. وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام قوله تعالى{فآخران يقومان مقامهما} يعني في الأيمان أو في الشهادة؛ وقال }آخران} بحسب أن الورثة كانا اثنين. وارتفع }آخران} بفعل مضمر. }يقومان} في موضع نعت. }مقامهما} مصدر، وتقديره: مقاما مثل مقامهما، ثم أقيم النعت مقام المنعوت، المضاف مقام المضاف إليه قوله تعالى{من الذين استحق عليهم الأوليان} قال ابن السري: المعنى استحق عليهم الإيصاء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف؛ واختاره ابن العربي؛ وأيضا فإن التفسير عليه؛ لأن المعنى عند أهل التفسير: من الذين استحقت عليهم الوصية. و}الأوليان} بدل من قوله{فآخران} قاله ابن السري، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز. وقيل: النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة؛ كقوله تعالى أي في أقطارها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة }الأولين} جمع أول على أنه بدل من }الذي} أو من الهاء والميم في }عليهم} وقرأ حفص{استحق} بفتح التاء والحاء، وروي عن أبي بن كعب، وفاعله }الأوليان} والمفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها. وقيل: استحق عليهم الأوليان رد الأيمان. وروي عن الحسن{الأولان} وعن ابن سيرين{الأولين} قال النحاس: والقراءتان لحن؛ لا يقال في مثنى؛ مثنان، غير أنه قد روي عن الحسن }الأولان} قوله تعالى{فيقسمان بالله} أي يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين قوله تعالى{ذلك أدنى} ابتداء وخبر. }أن} في موضع نصب. }يأتوا} نصب بـ }أن}. }أو يخافوا} عطف عليه. }أن ترد} في موضع نصب بـ }يخافوا}. }إيمان بعد أيمانهم} قيل: الضمير في }يأتوا} و}يخافوا} راجع إلى الموصى إليهما؛ وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد به الناس، أي أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي، والله أعلم. قوله تعالى{واتقوا الله واسمعوا} أمر؛ ولذلك حذفت منه النون، أي اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له متبعين أم الله فيه. }والله لا يهدي القوم الفاسقين} فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية، وقد تقدم، والله أعلم. {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} قوله تعالى{يوم يجمع الله الرسل} يقال: ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها؟ فالجواب: أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و}يوم} ظرف زمان والعامل فيه }واسمعوا} أي واسمعوا خبر يوم. وقيل: التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج. وقيل: التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل، والمعنى متقارب؛ والمراد التهديد والتخويف. }فيقول ماذا أجبتم} أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي ؟ }قالوا} أي فيقولون{لا علم لنا}. واختلف أهله التأويل في المعنى المراد بقولهم{لا علم لنا} فقيل: معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا؛ لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء؛ وهذا مروي عن النبي عليه الله عليه وسلم. وقيل: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، فحذف؛ عن ابن عباس ومجاهد بخلاف. وقال ابن عباس أيضا: معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيقولون{لا علم لنا} قال الحسن ومجاهد والسدي. قال النحاس: وهذا لا يصح؛ لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قلت: هذا في أكثر مواطن القيامة؛ قلت: فإن كان السؤال عند زفرة جهنم كما قال بعضهم فقول مجاهد والحسن صحيح؛ والله أعلم. قال النحاس: والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار؛ فيقولون: لا علم لنا؛ فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها. وقال ابن جريج: معنى قوله{ماذا أجبتم} ماذا عملوا بعدكم؟ قالوا{لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}. قال أبو عبيد: ويشبه هذا {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} قوله تعالى{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا؛ قاله المهدوي. و}عيسى} يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون }ابن مريم} نداء ثانيا، ويجوز أن يكون في موضع نصب؛ لأنه نداء منصوب كما قال: ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال. قوله تعالى{اذكر نعمتي عليك} إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة، وميزهما به من علو المنزلة. الثاني: ليؤكد به حجته، ويرد به جاحده. ثم أخذ في تعديد نعمه فقال{إذ أيدتك} يعني قويتك؛ مأخوذ من الأيد وهو القوة، وقد تقدم. وفي }روح القدس} وجهان: أحدهما: أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} قوله تعالى{وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} قد تقدم القول في معاني هذه الآية. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم؛ ومنه قوله تعالى أي أمرها بالقرار فاستقرت. وقيل{أوحيت} هنا بمعنى أمرتهم وقيل: بينت لهم. }واشهد بأننا مسلمون} على الأصل؛ ومن العرب من يحذف إحدى النونين؛ أي واشهد يا رب. وقيل: يا عيسى بأننا مسلمون لله. {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} قوله تعالى{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم} على ما تقدم من الإعراب. }هل يستطيع ربك}. قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد }هل تستطيع} بالتاء }ربك} بالنصب. وأدغم الكسائي اللام من }هل} في التاء. وقرأ الباقون بالياء، }ربك} بالرفع، وهذه القراءة أشكل من الأولى؛ فقال السدي: المعنى هل يطيعك ربك إن سألته }أن ينزل} فيستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز{اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} أي لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال قلت: وهذا تأويل حسن؛ وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين؛ على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى، وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا، وذكر قول الحواريين{هل يستطيع ربك} ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره؛ قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى{هل يستطيع ربك} ليس بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال، وأدب مع الله تعالى؛ إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كله شيء ممكن؟! وأما قراءة }التاء} فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما؛ قالت عائشة رضي الله عنها: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا }هل يستطيع ربك} قالت: ولكن }هل تستطيعُ ربَّك}. وروي عنها أيضا أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا{هل تستطيع ربك} وعن معاذ بن جبل قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم }هل تستطيع ربك} قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء }هل تستطيع ربك} وقال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله. وقيل: هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله؛ والمعنى متقارب، ولا بد من محذوف كما قال {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} قوله تعالى{قالوا نريد أن نأكل منها} نصب بأن }وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفى قولهم{نأكل منها} وجهان: أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها لحاجة الداعية إليها؛ وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة إذ كانوا زمنى أو عميانا وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء؛ فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون{قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له{نريد أن نأكل منها} الآية. الثاني{نأكل منها} لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها، قال الماوردي: وهذا أشبه؛ لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم{وتطمئن قلوبهم} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا الثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا الثالث: تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ ذكرها الماوردي وقال المهدوي: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا قال الثعلبي: نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا. }ونعلم أن قد صدقتنا} بأنك رسول الله }ونكون عليها من الشاهدين} لله بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة. وقيل{ونكون عليها من الشاهدين} لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم. {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} قوله تعالى{قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا} الأصل عند سيبويه يا الله، والميمان بدل من }يا} }ربنا} نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. }أنزل علينا مائدة} المائدة الخوان الذي عليه الطعام قال قطرب: لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام فإن لم يكن قيل: خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تميد ما عليها أي تعطي ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش: أي المستعطى المسؤول فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا لأنه يؤكل على المائدة؛ كقولهم للمطر سماء. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لحركتها بما عليها من قولهم: ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر: وقال آخر: ومنه قوله تعالى وقرأ الأعمش }تكن} على الجواب؛ والمعنى: يكون يوم نزولها }عيدا لأولنا} أي لأول أمتنا وآخرها فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية فلذلك جعلوا الأحد عيدا والعيد واحد الأعياد وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي شهدوا العيد قال الجوهري وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل: العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود في المرح والفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ولا يصاد الوحش ولا الطيور ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية قال: وقد تقدم وقرأ زيد بن ثابت }لأولانا وأخرانا} على الجمع قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم. }وآية منك} يعني دلالة وحجة. }وارزقنا} أي أعطنا. }وأنت خير الرازقين} أي خير من أعطى خير من ورزق لأنك الغني الحميد. {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} قوله تعالى }قال الله إني منزلها عليكم} هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤاله عيسى إجابة للحواريين وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير قال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون قال الله تعالى }فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فالذي عليه الجمهور وهو الحق نزولها لقوله تعالى{إني منزلها عليكم} وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم{فمن يكفر بعد منكم} الآية استعفوا منها، واستغفروا الله وقالوا: لا نريد هذا؛ قاله الحسن. وهذا القول الذي قبله خطأ والصواب أنها نزلت قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: [1] قلت: في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده وعن ابن عباس وأبي عبدالرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا وقال ابن عطية: كانوا يجدون في السمك طيب كله طعام؛ وذكره الثعلبي وقال عمار بن ياسر وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها؛ لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير والله أعلم والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى فقال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان؛ ورياضا خضرا وعبقريا قال: فدعا الله فإذا عين ساحة ورياض خضر وعبقري ثم قال أحدهم سلوني فأدعوا الله لكم بما شئتم فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ثم قال أحدهم: سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم؛ فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت وذكر تمام الخبر. قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم وخرجه الترمذي قال: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه: حسن غريب قال الترمذي أبو عبدالله: الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم وما كانت العرب لتمتهنها وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت وقوله: ولا في سكرجة لأنها أوعية الأصباغ وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم وكان يقول{انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ} فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} قوله تعالى{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} اختلف في وقت هذه المقالة فقال قتادة وابن جريح وأكثر المفسرين: إنما يقال له هذا يوم القيامة وقال السدي وقطرب قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت؛ واحتجوا بقوله يعني إذا جزى وقال الأسود بن جعفر الأزدي: يعني إذا هازلتهن فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع وفي التنزيل قوله تعالى{قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته} قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك. }إنك أنت علام الغيوب} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن. {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} قوله تعالى{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} يعني في الدنيا بالتوحيد. }أن اعبدوا الله} }أن} لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل قوله تعالى{وكنت عليهم شهيدا} أي حفيظا بما أمرتهم. }ما دمت فيهم} }ما} في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. }فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء قال الحسن: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه وفاة الموت وذلك قوله تعالى {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} قوله تعالى{إن تعذبهم فإنهم عبادك} شرط وجوابه }وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} مثله روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح، والآية{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف السيد لعبده ولهذا لم يقل: فإنهم عصوك وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل الهاء والميم في }إن تعذبهم} لمن مات منهم على الكفر والهاء والميم في }إن تغفر لهم} لمن تاب منهم قبل الموت وهذا حسن وأما قول من قال إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي. وقال{فإنك أنت العزيز الحكيم} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل فالتقدير إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده؛ الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء وقد قرأ جماعة{فإنك أنت الغفور الرحيم} وليست من المصحف ذكره القاضي عياض في كتاب }الشفا} وقال أبو بكر الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله{إنك أنت العزيز الحكيم} ليس بمشاكل لقوله{وإن تغفر لهم} لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو على ما أنزله الله عز وجل واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه فإنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} قوله تعالى{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} أي صدقهم في الدنيا فأما في الآخرة فلا ينفع فيها الصدق وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله لله وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه وقيل: المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم والله أعلم وقرأ نافع وابن محيصن }يوم} بالنصب ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر فيوم ينفع خبر لـ }هذا} والجملة في موضع نصب بالقول. وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فـ }يوم} ظرف للقول و}هذا} مفعول القول والتقدير قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة وقال الكسائي والفراء: بني يوم ههنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي: الزجاج ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر وقيل: يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو }هذا} لأنه مشار به إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث تقول: القتال اليوم والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول وقيل: يجوز أن يكون }هذا} في موضع رفع بالابتداء و}يوم} خبر الابتداء والعامل فيه محذوف والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم. وفيه قراءة ثالثة }يوم ينفع} بالتنوين }الصادقين صدقهم} في الكلام حذف تقديره }فيه} مثل قوله قوله تعالى{لهم جنات} ابتداء وخبر. }تجري} في موضع الصفة. }من تحتها} أي من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا }ورضوا عنه} أي عن الجزاء الذي أثابهم به. }ذلك الفوز} أي الظفر }العظيم} أي الذي عظم خيره وكثر وارتفعت منزلة صاحبه وشرف. {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} قوله تعالى{لله ملك السماوات والأرض} الآية جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين. ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. تمت سورة }المائدة} بحمد الله تعالى.
|